لكل فئة لبنانية كربلاؤها.. بقردونيان لـ”أحوال”: الأزمة في القيّم وليست في عدد الأصوات

في الطريق الى الدوْرة في ضاحية بيروت الشرقية، تعترض العين والأذن كلمات اللغة الأرمنية، وتشدك بقوة حيوية التجمعات الصباحية لرجالٍ في عمر التقاعد أمام أفران المناقيش أو محال بيع القهوة، ودون أن تفهم لغتهم تقرأ نقاشهم في الوجوه بين الحدّة والضحك، ويطالعك سؤال ما الذي يدور في رؤوس وصدور هؤلاء؟ ماذا يفكر قاطني هذا “الغيتو”؟.
في معالم الغيتو
نظرياً يعرّف اللبنانيين المنطقة بهوية أكثريتها، لكن في الحقيقة لم يعد في لبنان “غيتو” صافي، ومنطقة “الدورة – برج حمود” أو عنجر في البقاع الشمالي أكبر دليل على اختلاط واندماج الهويات الصغرى.
في برج حمود “الغيتو”، ورغم شهرته بالمؤسسات والشركات على أنواعها وبمعظمها تحمل لمسات لبنانيين من أصول أرمنية، يتقدم سؤال الهوية والانتماء بقوة في زمن الخضات الكبرى، وبعيداً عن جفاف الأرقام والأعداد ومعادلات الربح والخسارة الآنية للمقاعد المتحركة، كيف يقرأ “الأرمني المثقف الثابت على خطه وتحالفاته” هذه المرحلة؟ وكيف ستنتهي “هوجة الانتخابات” بعد أن تقفل الصناديق وتبرد الصدور ويرتفع منسوب هدوء العقل؟”.

هذه الأسئلة في الطريق الى مركز حزب الطاشناق، ورغم دقائق التأمل أمام معلم الكنيسة الأرمنية ذات اللون الزهري الرائعة الجمال، تُكمل الخطوات نحو مركز حزب الطاشناق، أكبر الأحزاب الأرمنية وأوسعها انتشاراً.
ورغم ضجيج الانتخابات في البلاد، الهدوء يعم مبنى الحزب ومحيطه، مبنىً جميل يضم مركز كتلة نواب الأرمن واستديوهات اذاعة راديو فان ومكاتب ادارية، وبدخوله تصدمك قمة “هدوء المتمكن” في مكتب رئيس الحزب، حيث تتسيّد الكتب المتنوعة برفوفها المرتبة كل الزوايا والحيطان، وسريعاً ما يفهم الزائر أن غنى المكتبة والكتب وتنوعها هي بشخصية صاحب الموقع وكأنهما صنوان.

بقردونيان: الأخلاق أهم مواجع زمن الانتخابات
الشخصية الهادئة، هاغوب بقرادونيان رئيس حزب الطاشناق، معه يتشعب الحديث بعمق المثقف، هو المدرك والمحلل لأبعاد القضايا والأحداث الآنية السطحية، معه تتحول جلسة فنجان قهوة ودردشة بسيطة الى مادة غنية لكتابة الكثير من القضايا والاشكاليات المعقدة.
كما في كل زاوية من وطن الأرز يتقدم حديث الانتخابات على كل ما عداه، ومع الانتخابات تطفو على السطح كل الهواجس والآلام والمشاعر المتناقضة، خاصةً في لغة الأقليات والأكثريات التي يدحضها بقردونيان سريعاً بردٍ مقتضب “المسألة ليست أكثرية وأقلية بل تتعلق بقيّم ومبادئ عامة، أولها وأهمها نوعية ونمط تفكير المرشحين ومن يدعمهم، فإذا كان الأرمن مثلاً أو المسيحيين يخافون الذوبان في لعبة العدد فكيف بها الحال عند الطوائف الاسلامية، عند السنة والشيعة تحديداً ماذا يخيفهما؟ العدد أم نوعية العناوين المطروحة؟ دور السفارات أم نوعية المرشحين و”البروباغاندا” المرافقة لهذه الترشيحات؟”.
ويستدرك بقرادونيان بتوضيح الفكرة “الاستهداف هو لكل الأحزاب الكبرى والأفكار العامة والشاملة، في لبنان وغيره من الدول، هناك وفي مكانٍ ما مشاريع لأشخاص ومؤسسات ودول لتفكيك عدد من المفاهيم والقيّم التي صمدت وبقيت عليها مجتمعاتنا الشرقية، واذا كانت مواجهة المقاومة اللبنانية (حزب الله) مكلفة مادياً وعسكرياً وبشرياً فإن سياسة الحرب الناعمة أقل كلفة بكثير، كذلك الأمر مع كل من يشكل عقبة بوجه المشاريع الكبرى، فكما خطر المقاومة على العدو الاسرائيلي تبقى الأحزاب الكبرى، كقوة متماسكة، وخطراً على المشاريع الدولية… على المسرح المفتت وفي معركة التفتيت يسهل شراء الذمم والنفوس الضعيفة”.

وهل أصيب الأرمن بلوثة الأقليات والأكثريات؟ يجيب بقردونيان ضاحكاً “وهل تصدق أن الأرمن في غيتو منعزل عن التأثير العام؟ من منا مثلاً لم يتابع مسلسلات لبنانية منذ تسعينيات القرن الماضي والتي ملأت الشاشات ومعظمها يتمحور حول تشريع وتحليل آفات ومخالفات حرمها المجتمع والدين والأخلاق تحت عناوين حقوق الانسان وحماية المخطئ؟، ليس تفصيلاً أن تنتشر ظواهر الدعارة والمثلية وتعاطي المخدرات وتمر بسلاسة في الاعلام والمجتمع وفي الأزقة دون استنكار وردٍ عنيف، هذا يرتبط مباشرةً وعملياً بنوعية ما نراه اليوم من ترشيحات لأشخاص ودفعهم لتبوؤ المقاعد النيابية وهم بعيدون عن التشريع او التمثيل الحقيقي للقواعد الشعبية، يمكن أن تحملهم ظروف ولحظات “الخضة العنيفة” الى المجلس النيابي وهم لا يدرون وسندفع الثمن نحن جميعاً فيما بعد، العنوان العريض اليوم هو شعارات المجتمع المدني ورواده، وهنا نسأل من هم شخصيات هذا العنوان الفضفاض؟ أي تعريف للشخص او القائد “المدني”؟”.
ويتابع بحدة المجروح من النماذج التي “طحشت” على المجتمع الأرمني تحديداً “منهم من جيء به الى الحيز العام وهو لا يدرك ماذا يفعل حتى لا نقول أكثر، ومنهم من يعرفه الجميع أنه في قلب مشروع مضاد لبيئته بشكلٍ أو بآخر، والأخطر فيهم من يدرون ما يفعلون.
المواطن أياً كان انتماؤه يضيع في زحمة هذه الضغوط من كل حدبٍ وصوب،،، نحن بحاجة للأحزاب كتنظيم وقيمة أخلاقية يتدرج ويُصقل من خلالها الأفراد للوصول الى مراكز القرار، أخطاءنا السياسية السابقة لا تعني تدمير الهيكل على رأس الجميع فيدفع الثمن الباهظ المواطن والدولة وكل الوطن”.
السياسي المخضرم، من عاصر وتابع عدد من العهود وكان له فيها البصمة، يقر أن “سياسيي لبنان بمعظمهم يمثلون القوى الكبرى بشكلٍ أو بآخر”نتمنى لو كان لدينا قدرة الخروج من هذه الدوامة بما نستطيع وبالقدر المنطقي المتدرج، هذه ثقافة قرون من السياسات اللبنانية، وكل ما نسمعه اليوم من شعارات وعناوين عريضة كثيرٌ منها ذر للرماد في العيون، نحن أبناء بلدٍ صغير في منطقة تتقاذفها رياح عاتية، جميعنا كأقليات لدينا هواجس وجودية منذ زمن وزادتها حالياً تجارب قاسية كما حدث في سوريا والعراق، وطغت الهواجس على كل ما عداها بقوة في ثقافتنا المباشرة وفي لاوعينا الجمعي، والى حدٍ ما الأرمن يتماهون مع هذه المخاوف”.
حضور الإبادة الأرمنية
كيف تحضر أهوال الإبادة الأرمنية في زمن الانتخابات النيابية اللبنانية رغم مئويتها؟
لكل طائفة ومذهب لبناني “كربلاؤه” الخاص، ومن قال أن الأرمن استثناء؟ يكفي أن تتابع بعض مواقع التواصل الاجتماعي حتى تكتشف حجم الاتهامات المتبادلة بالمتاجرة بدماء وضحايا الأرمن.

هنا لا يبتعد بقردونيان عن الاشكالية “وهل نقفز فوق الوقائع ونتعامى عن بعض الحقائق؟ لماذا نهمل فكرة المؤامرة والدور التركي الدائم لإضعاف القوى الأرمنية الرئيسية؟ لماذا نغفل ولا نتذكر ما فعله الأتراك وحلفاءهم في بلادنا من حلب الى شواطئ المتوسط قديماً وحديثاً؟”.
ويضيف “الإبادة الأرمنية في وجدان الانسانية ولن تنتهي ولا نستعملها كمحفز انتخابي هي فوق كل تبايناتنا الداخلية ولكن التنبه واجب والفطنة تقتضي الا نأخذ كل الأمور على المحمل الحسن”.

في وقائع اليوم
يبدو حزب الطاشناق مرتاحاً في الانتخابات الى مسار الأمور “نحن لا نتوقع المعجزات في النتائج، بل هو مسار طبيعي لتمثيل شريحة من اللبنانيين، وهي غنى للتنوع ومزهرية الوطن المتعدد الأشكال، لكن تحديات البلد جعلتنا نعيد ترتيب الأولويات”.

ويتابع بقردونيان “اليوم لدينا هاجس الهجرة النوعية، شباب وعقول وأدمغة، وتراجع اقتصادي عنيف يضرب بيئتنا وحياتنا، ونحن ما زلنا نلملم جراح انفجار المرفأ والانهيار الاقتصادي والاجتماعي وتراجع الانتاج الوطني وانهيار العملة الوطنية، فالإقدام على الترشح والمشاركة في الحكم ليست مغامرة مربحة لدخول “جنة السلطة” كما كان يُنظر اليها سابقاً، انها فترة قاسية جداً من عمر الوطن عسى أن نجتازها بأقل الخسائر الممكنة”.
وقبل ختام الحديث يشير “الأستاذ هاغوب”، كما يناديه الرفاق، بمرارة الى أرمينيا، موئل الروح والقلب، التي “تعاني اليوم كما لبنان الفقر والفساد والمؤامرات من كل حدبٍ وصوب وفريقها الحاكم يعاني العثرات المتتالية… من لبنان الى جبل آرارات الوجع واحد والقلب واحد والأمل واحد بالخروج الى موطن السكينة”.